رحيل أُم الجزائريين.. شافية بوذراع أسطورة السينما والأبرز في تجسيد "معاناة المرأة"

رحيل أُم الجزائريين.. شافية بوذراع أسطورة السينما والأبرز في تجسيد "معاناة المرأة"
شافية بوذراع

موت الكبار مولد جديد، وحالة تعني انشطار بين الروح والجسد، من التراب وإلى التراب يعود الجسد، وتعود الروح إلى بارئها في عالمها الآخر، وحين يخلو ظهر الأرض من ذلك الجسم المادي، تتصعد القيم لتحل محل الجسم الترابي, فيراها الناس بعين البصيرة كما رأوا صاحبها من قبل بالبصر، وهنا يكون حضورًا جديدًا مغايرًا لذي قبل، حياة لا يملكها جميع الأموات، وقديماً قال أبوالعلاء: "خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"، لكن خلود العظماء لا يظفر به جميع الهالكين.

من هؤلاء أيقونة السينما الجزائرية شافية بوذراع الملقبة بـ"أم الجزائريين"، التي رحلت اليوم عن 92 سنة، شهدت كل سنة فيها جزءاً من تاريخ بلادها.

جسدت “شافية” قيمة إنسانية وقامة فنية كبيرة في الجزائر، صنعت مجدها وشرفت عملها، عرف عن الفنانة الراحلة عشقها لبلدها الجزائر، كيف لا وهي التي عاشت ويلات الاحتلال الفرنسي، وكان زوجها أحد شهداء الثورة التحريرية الجزائرية.

ونعى رئيس الجزائر السيد عبدالمجيد تبون الراحلة من خلال رسالة تعزية على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية بموقع "فيسبوك". 

وجاء في الرسالة: "رسالة تعزية رئيس الجمهورية السيد عبدالمجيد تبون لعائلة الفنانة المرحومة شافية بوذراع، هذا نصها الكامل: "إلى عائلة الفنانة المرحومة شافية بوذراع.. تلقّيتُ ببالغ التأثّر نبأ وفاة الـمغفور لها بإذن ربّـها، الفنّــانة المرحومــة شافية بوذراع، وقدْ فَارقَتنا لتلقى اللهَ ولقاؤُهُ حَقّ، وأمامَ هذا الـمُصاب الجَلل، فإنّنا نودّعُ كوكبًا أَفَلَ من سماءِ الفنّ الجزائريّ، وقد صدَحَت المرحومةَ رُفقةَ ثلّةٍ من فنّاني الرّعيلِ الأوّل للجزائر المستقلّة عبرَ رُكحِ المسارِحِ، وافتتحَت بواكيرَ الإنتاج التّلفزيونيّ والسّينمائيّ، وكانت مثالاً ومدرسَةً لأجيال من الفنّانين، ومَبعثًا للاحترام من جُمهور المتذوّقين على مرّ سنوات طوالٍ".

وكانت شافية من بين أكثر الفنانات اللاتي أبدعن في تصوير وترجمة معاناة المرأة الجزائرية إبان فترة الاحتلال الفرنسي، كما أبدعت بوجهها الملائكي في أداء أدوار الأم، وصوتها الجهوري الذي عرفت كيف تستثمره في أداء أدوار المرأة الصعبة.

سيرة فنية بعمر وطن

عند الحديث عن المشوار الفني لأم الجزائريين، فإن ذلك يقود إلى سرد سيرة بلد بأكمله، فهي الفنانة التي عاصرت جميع رؤساء الجزائر وفترة الاحتلال الفرنسي، وكانت من الشهود على ما اقترفه ضد هذا الشعب العربي، وجسدته في بعض أعمالها السينمائية والمسرحية. 

 الراحلة شافية بوذراع، عاصرت أيضا كبار الفنانين والمخرجين الجزائريين الذين صنعت معهم مجد السينما الجزائرية، وباتت تلقب أيضا بـ"أسطورة السينما الجزائرية".

الفنانة الجزائرية شافية بوذراع ممثلة سينمائية ومسرحية، أصلها من محافظة قسنطينة الواقعة شرقي الجزائر، ولدت بها في 22 إبريل عام 1930، عرفها الجمهور الجزائري ببساطتها وتواضعها حنانها، من خلال الأدوار التي أدتها والتي يؤكد العارفون بها أنها "إسقاط تام لشخصيتها الطيبة". 

 شافية بوذراع حياتها لم تكن سهلة كما اعتقد البعض، فقد عاشت حياة صعبة جداً بعد رحيل زوجها الذي استشهد في الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وتكبدت معها معاناة المرأة، وكابدت معها حياة تربية أبنائها وأن تكون لهم "الأب والأم معاً".

لالا عيني ..الدور الأبرز

"لالا عيني" لم يكن مجرد دور للفنانة الراحلة شافية بوذراع، ولم يكن نقطة تحول فقط في مشوارها الفني، بل ضمن أحد الأعمال الفنية الدرامية التي لا يزال صداها إلى يومنا هذا، وفي تصريحات سابقة لوسائل إعلام محلية، قدم الفنان والممثل الجزائري عنتر هلال شهادته عن الفنانة والإنسانة شافية بوذراع، إذ قال إنها "عاشت بعد رحيل زوجها المكافح خلال الثورة، معاناة المرأة الجزائرية، التي كابدت أعباء الحياة لتربية أبنائها، وقد منحها وضعها العائلي الصعب آنذاك قدرة كبيرة على الصبر". 

 وأكد أن شافية بوذراع التي أدت دور "لالا عيني" في مسلسل الحريق، "شكلت الصورة النموذجية للمرأة الجزائرية في كفاحها، ونضالها ضد الحرمان والجهل والفقر، وعذاب الاستعمار الفرنسي، وهو "نفس ما عاشته في حياتها بعد رحيل زوجها".

ويعد دور "لالا عيني" أشهر أدوار الفنانة الجزائرية الراحلة شافية بوذراع، وهو اللقب الذي بقي لصيقاً بها إلى غاية وفاتها؛ فهو الدور الذي عرفت فيه كيف تترجم معاناة المرأة الجزائرية مع بطش وتعذيب الاحتلال الفرنسي لبلادها، وهي التي كانت شاهدة على قساوة الاحتلال. 

و"لالا عيني" هو دور رئيسي في مسلسل "الحريق" الذي أنتجه التلفزيون الجزائري عام 1974، وجسد مرحلة من مراحل الاحتلال الفرنسي للجزائر قبل الحرب العالمية الثانية.

أخرجه الراحل مصطفى بديع، وتم اقتباسه من رواية "دار السبيطار (المستشفى) والحريق" للراحل محمد ديب، ولحنه الأمين بشيشي. وصورت المشاهد الخارجية لكل المسلسل في محافظة تلمسان غربي الجزائر، حيث كانت "لالا عيني" تمارس التجارة في سوق شعبية بالمدينة.

 أما المشاهد الداخلية فتم تصويرها داخل بيت جزائري بالطراز القديم، تم إنشاؤه في "قصر المعارض" بمنطقة "الصنوبر البحري" في الجزائر العاصمة. 

مهرجان كان

 الراحلة شافية بوذراع، هي أيضا أول فنانة جزائرية تسير على سجادة مهرجان كان السينمائي بفرنسا عام 2010. 

 لم تتنقل إلى هنالك من أجل السياحة أو الفرجة، بل لكونها بطلة فيلم "خارجون عن القانون"، وظهرت حينها بكامل أناقة المرأة الجزائرية وهي ترتدي لباس "الكاراكو" المعروف في العاصمة الجزائرية، وبـ"الخلخال" الشاوي الأمازيغي وهي سوار فضي يلبس في الرجل.

  الممثلة الجزائرية شافية بوذراع شاركت في فيلم (خارجون عن القانون) للمخرج العالمي رشيد بوشارب أنتجه عام 2010 ورشح لنيل جائزة الأوسكار وشارك في مهرجان "كان". وهو الفيلم الذي عادت من خلاله شافية بوذراع لأداء دور معاناة المرأة الجزائرية خلال فترة الاحتلال الفرنسي، حيث تدور أحداثه بين عامي 1945 و1962، ويتحدث عن 3 إخوة يعيشون في فرنسا بعد أن نجوا من مذبحة الـ8 مايو 1945 التي اقترفها جيش الاحتلال الفرنسي ضد المتظاهرين بمحافظة سطيف الذين خرجوا مطالبين باستقلال الجزائر.

الجزائر حزينة هذا اليوم

سحابة حزن غيمت على الجزائر منذ رحيل أم الجزائريين، كما حظيت بنعي شعبي وفني.

ونشر الفنان والمخرج أمين بومدين صورة له مع الفنانة الراحلة شافية بوذراع عبر "إنستغرام"، وأرفقها بدعاء وترحم على روحها. 

ونعى عدة فنانين جزائريين على صفحاتهم عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي الفنانة شافية بوذراع، من بينهم فيزية توقرتي، فضيلة عشماوي، في المقابل، عجت مختلف صفحات الجزائريين عبر منصات التواصل بخبر وفاة أيقونة وأسطورة السينما الجزائرية شافية بوذراع، وأجمعت منشوراتهم على التأكيد أن رحيلها "خسارة كبيرة للفن الجزائري". 

 ونشر المسرحي الجزائري محمد شرشال صورة جمعت بين الفنانين الراحلين شافية بوذراع وأحمد بن عيسى.

وعلق عبر موقع "فيسبوك" قائلا: "شافية بوذراع تلتحق ببن عيسى بعد 3 أيام من وفاته، وكأن الصورة ترفض إلا أن تجمعهما مع بعض في حكاية". وتابع قائلا: “لالة عيني بطلة مسلسل الحريق لمحمد ديب، المرأة التي كرهنا تسلطها، ولكننا تعاطفنا مع جوهر الأم الفقيرة المكافحة التي كانت، المظاهر خداعة، والفقر كافر.. هذا ما صنعه فينا (الاستدمار) الفرنسي".  

وختم منشوره بالقول: "تودعنا اليوم سيدة المسرح، السينما والتلفزيون، اليوم كما ودعنا بن عيسى الجمعة الماضي، وهي شامخة بإنجازاتها، مشيعة بحب الجماهير لها، هو الموت يعبث بنا، يموت بن عيسى أولا لتدفن شافية بوذراع قبله، سنبقى نحبكم إلى أن نلحق بكم، من أعماق القلب شكرا".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية